Monday, August 11, 2008

Satu Buku Untuk Kalian Semua

Saya terlalu terkesan dengan isu Palestin. Lebih-lebih lagi apabila menterjemah buku karangan Tuan Guru Abdul Hadi Awang. Pastinya umat Islam seluruhnya merindui seorang tokoh seperti Sultan Salahuddin Al-Ayubi


**********


شخصية البطل الإسلامي

صلاح الدين الأيوبي في ذكراها الثمانمئة

بقلم الأستاذ: نجيب المعاذ

كانت تحكم المجتمع الإسلامي قبيل ظهور صلاح الدين الأيوبي في القرنين الخامس والسادس الهجريين، الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، قوى مختلفة متناقضة، بل ومتصارعة من أجل البقاء، أو السيطرة على البلاد المجاورة.

ففي مصر كانت الخلافة الفاطمية، وفي بغداد كانت الخلافة العباسية، إضافة إلى المنازعات السياسية والمذهبية بين القوتين، وكانت كل منهما تحمل عوامل ضعفها في نفسها، لما يدور بينها وبين القوى المحلية الأخرى من منازعات.

ففي بغداد مثلاً، كانت الخلافة العباسية تناضل من أجل الإبقاء على كيانها ضد السلاجقة الأتراك، وتخوض حتى عام 555هـ/1160م (يوم فرض أرطغرل سلطته على الخلافة العباسية)، صراعاً عنيفاً حفاظاً على ما بقي من سلطانها، وإحياء لمصالحها المفقودة.

وفي القاهرة عاصمة الخلافة الفاطمية، كان الفاطميون يرون في بلاد الشام امتداداً طبيعياً لمصر، ولهم أن يسيطروا عليها ويضموها لها، في الوقت الذي كانت فيه قوى الصليبيين الفرنجة تنتهز الفرص الملائمة لتوقع بهما ولتؤسس لها ملكاً على أنقاضهما.

في هذه الظروف الصعبة والمعقدة التي سادت البلاد من اختلاف وفرقة وتمزق، توجهت أنظار الصليبيين الفرنجة نحو بلاد الشام لكسب مغانم مختلفة، منها أنهم وجدوا في فلسطين مركزاً هاماً لتحقيق المكاسب: منها دينية، ففلسطين تمثل منبت النصرانية، ومنها اقتصادية، فبلاد الشام كانت تمثل الطريق التجاري الذي يربط أوربا بالعالم الشرقي، إضافة إلى أن بلاد الشام تمثل لهم بلد الغنى والجمال الذي يحقق لكثير من الفقراء والإقطاعيين على السواء في أوربة المغانم الكثيرة (كما قال المؤرخ الفرنسي شاميدور) بينما تقدم آخرون فراراً من رتابة حياتهم اليومية، أو حباً في المغامرة.

ورفع كلا الطرفين المتنازعين الفرنجة الغزاة، والمسلمون شعار (الجهاد في سبيل الله) ما دام ذلك الشعار يحقق لهم الأهداف التي يصبون إليها، لا سيما أن الدين كان الإطار العام للحياة بجميع مظاهرها في العصور الوسطى.

تقدم الصليبيون إلى بلاد الشام فوصلوا إليها عام 489هـ/1096م، وكانت آنئذ أوصالاً مفككة بين الفاطميين والأتابكة الزنكيين، وغيرهما من القوى المحلية الأخرى، وتمكنوا من الاستيلاء على طرسوس (مدينة صغيرة غربي خليج اسكندرون) والرها (أورفة)، ثم احتلوا أنطاكية عام 492هـ/1099م، وفي نفس العام استولوا على القدس، وأعملوا في أهلها الذبح والقتل بالجملة (طبقاً لما ورد في المصادر العربية والأجنبية على السواء مثل الدويهي في تاريخ الأزمنة وشاميدور).

وقد أدى ذلك إلى إثارة روح التحدي لدى العالم الإسلامي، وقد أوضح هذا المفهوم(المؤرخ برنارد لويس في كتابه الغرب والشرق الأوسط) بقوله: جاء الصليبيون يحملون معهم تراثاً ضخماً من الشك والتعصب أثروا فيه على العرب المسيحيين، وعلاقتهم بجيرانهم المسلمين، وأضعفوا الوثيق من الصلات التي كانت قائمة بينهم قبل قيام الحروب الصليبية) انتهى قول لويس.

إلا أن ضعف المسلمين وتفوقهم لم يدم طويلاً بفضل ما تمخضت عنه يقظتهم في هذه المنطقة، وظهور قادة مخلصين أكفاء، تمكنوا من استغلال الظروف السياسية التي كانت تسود المنطقة في مدة لا تتجاوز نصف قرن، وكان من أولئك الرجال عماد الدين زنكي، وابنه نور الدين محمود، وأخيراً صلاح الدين يوسف، الذي تمكن من توحيد الشام وبلاد الجزيرة ومصر، وامتدت سلطته من دجلة إلى النيل.

في هذه الظروف التي اكتنفها التعقيد السياسي، الذي كان أن يصل إلى شفير الفوضى برز صلاح الدين الأيوبي؛ الذي يشكل عهده أكثر من حادثة عابرة في تاريخ العصور الوسطى، فهو كما وصفه المؤرخ هاملتون جب( يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة في التاريخ البشري).

والسؤال الآن: هل الظروف السائدة هي التي خلقت صلاح الدين؟ أم طموحه الشخصي وحبه للجهاد والفتح هو الذي دفعه إلى الجهاد؟ وهل كانت سياسته هذه نابعة من عقيدته؟ أم أملتها عليه الظروف المواتية؟ وهل كان صلاح الدين في سياسته مقلداً لنور الدين أم مبتكراً؟ وإذا كان مبتكراً فما الابتكارات التي جاء بها؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة نستعرض حياة صلاح الدين منذ مولده حتى إسقاطه الدولة الفاطمية في مصر، وتوجهه نحو الشام سنة 570هـ/1174م، ثم نوضح معالم شخصيته من خلال بعض أعماله.

ينتسب صلاح الدين يوسف للأسرة الأيوبية،وتعود هذه الأسرة –كما هو ظاهر من تسميتها- إلى أيوب بن شاذى، وأصل هذه الأسرة من الأكراد الروادية.

دخلت الأسرة الأيوبية كنف الحياة العربية الإسلامية في بغداد وتكريت وبعلبك ودمشق، وترعرعت بينها وتثقفت بالثقافة العربية الإسلامية في وقت كان شعار الحياة العامة الدين" كما سبق وقلنا" والدين الإسلامي يجمع بين القوميات المختلفة برباط الأخوة، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" "ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" .

أما نقطة البداية في مساهمة هذه الأسرة في حوادث التاريخ العربي الإسلامي، فكانت بعد مفارقتهم بلدتهم( دوين) حيث منح بهروز حاكم بغداد قلعة تكريت لجد الأسرة شاذي إكراماً لصداقتهما، ثم ولى بهروز نجم الدين أيوب بن شاذي –والد صلاح الدين- حاكماً لقلعة تكريت عام 525هـ/1130م، ولكن حدث أن قتل أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أحد مماليك بهروز، فخرجت أسرة الأخوين مولية شطر الموصل, حيث يقيم زنكي (أتابك، الرجل الذي أكرم مثواهما عرفاناً بمساعدة كانا قدماها له إبان خلافه مع بهروز).

وفي الليلة التي غادر فيها نجم الدين تكريت، ولد له يوسف صلاح الدين، فحمله معه إلى الموصل عام 531هـ/1137م، وقضى يوسف صلاح الدين طفولته الأولى مع أبيه والي بعلبك، وكان يسمع عن اعتداءات الصليبيين على البلاد فتؤثر في نفسه، ولما صار له من العمر أربع عشرة سنة أقطعه نور الدين إقطاعاً حسناً، ومنذ ذلك الوقت أصبحت له مكانة خاصة، وظهرت حظوته لدى السلطان نور الدين.

وبعد أن تولى أبوه ولاية بعلبك،بدأ صلاح الدين يتلقى العلوم الإسلامية، وفنون القتال ولقي من الرعاية والاهتمام –باعتباره ابن والي المدينة – ما لا يلقاه أبناء أواسط الناس، فدرس القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم على يد كبار العلماء كالشيخ قطب الدين النيسابوري مثلاً، إضافة إلى تردده على دور العلم وتلقي الدروس العلمية على يد والده نجم الدين أيوب، وعمه أسد الدين شيركوه، والسلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، الذين كانوا ممن تحدث عنهم التاريخ باعتزاز.

ولم يكن صلاح الدين مقلداً لهم تقليداً كاملاً، كما أنه لم يكن مبدعاً كل الإبداع بل جمع بين الأصالة والتقليد بأسلوب جديد يتلاءم مع عصره الجديد، ولو لم يكن تعبيره صادقاً مع نفسه ومتماشياً مع روح عصره لما تمكن من الوصول إلى القيادة ولما حقق النصر على الأعداء، مما جعل الشعراء يمتدحونه، خاصة عندما حافظ على النظام وأظهر حسن السياسة يوم تولى رئاسة شرطة دمشق عام 560هـ/1165م ولم يكن له من العمر إلا اثنين

وعشرين عاماً.

وكان صلاح الدين يتردد على الفقيه العالم ابن عساكر الدمشقي، وصادق ابن سبط الجوزي القابقي، وبذلك جمع بين أساتذة الفقه والتاريخ والحديث والسياسة وقيادة العسكر، فتخرج على أيدي أولئك الأساتذة والقادة سلطاناً للمسلمين, بعد أن ساعدته الظروف السيئة للبلاد, وعرف كيف يستغل تلك الظروف, فلم ينازعه أحد مدة عشرين عاماً تقريباً.

وفي عام 558هت/1163م اتخذ أمورى الأول حاكم بيت المقدس الفرنجي مسألة امتناع الفاطميين عن دفع الجزية له, ذريعة لغزو مصر مستغلاً ظروفها القلقة, والصراع بين الوزراء، وضعف الخليفة الفاطمي, فقد سيطر ضرغام على الوزارة, وأبعد شاور عنها: مما دفع الأخير لطلب العون من نور الدين لإعادته للوزارة, وقد رحّب نور الدين بالعرض الذي يتفق وطموحاته وأهدافه في توحيد الجبهة الإسلامية ضد الخطر الفرنجي, لاسيما وأن مصر مصدر مهم للطاقة البشرية والموارد الاقتصادية، فأرسل جيشاً بقيادة صديقه شيركوه, وبرفقته ابن أخيه صلاح الدين, ولما سمع ضرغام بحملة نور الدين أرسل يطلب العون من أمورى حاكم القدس, إلا أن شيركوه وجيشه سبق قدوم الصليبيين, والتقى بقوات ضرغام عند أسوار القاهرة, وانتهت بهزيمة ضرغام وإعادة شاور للوزارة الفاطمية, وبهذا لم يستطع الصليبيون إنقاذ ضرغام.

بعد فترة طلب شاور من شيركوه الخروج من مصر؛ دون أن يفي بإعطاء ما وعد لنور الدين (وهو ثلث المحصول), إضافة إلى أنه لمس على ما يبدو طمع الزنكيين, فامتنع شيركوه من الخروج, فما كان من شاور إلا أن طلب النجدة من الصليبيين, لكنهم أخفقوا في القضاء على قوات شيركوه وصلاح الدين، وما أن عاد صلاح الدين وعمه إلى الشام حتى أخذا يحرضان نور الدين السيطرة على مصر.

وجاءت الفرصة المناسبة, إذ استنجد الخليفة الفاطمي العاضد بنور الدين لاستفحال ظلم شاور وتحالفه مع الفرنجة, فخرجت الحملة الثانية على مصر عام 563هـ/1166م وانتصر شيركوه على القوات المتحالفة, وكان لمهارة صلاح الدين قائد قلب الجيش أثر في ذلك النصر الذي نجا فيه أمورى بأعجوبة من المعركة, كما تحدث ابن الوردى وابن الأثير, حتى أن المؤرخ أبا شامة صرّح تعظيماً لذاك الانتصار بقوله: (وكان هذا من أعجب ما يؤرخ له, أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل).

ورغم اتفاقية الهدنة التي تنص على أن الفرنج لا يقيمون بمصر, إلا أنهم لم ينسحبوا من مصر كلياً, وذلك بالاتفاق مع شاور, مما دعا الخليفة الفاطمي العاضد أن يستنجد فيما بعد بنور الدين مرة ثالثة..... وأرسل نور الدين حملته إلى مصر وكان له الآن أهداف ثلاثة:

1- القضاء على الخلافة الفاطمية. 2-توحيد سورية ومصر. 3-ومتابعة الحرب ضد الصليبيين الفرنجة حتى نهاية...

دخل شيركوه القاهرة عام 564هـ/1166م, وقتل صلاح الدين شاور، وبمقتل شاور بدأ فصل جديد في العلاقات الأيوبية الفاطمية، لأن العاضد اتخذ شيركوه وزيراً له, لكن ما لبث شيركوه أن توفي, فحل محله في منصب الوزارة ابن أخيه صلاح الدين.

وفي عام 567هـ/1171م, وبأمر من نور الدين قطع صلاح الدين الخطبة للخليفة الفاطمي العاضد, وأقامها للخليفة العباسي المستضيء, وبذلك انتهت الدولة الفاطمية, وصارت مصر والشام دولة واحدة, ونشأ من هذه الوحدة طاقة مادية وبشرية, كان لها شأن كبير في دحر الغزاة.

ولقد غالى بعض الكتاب المحدثين في تعليلاتهم للوحشة التي حدثت بين

نور الدين وصلاح الدين, ومن هذه المبالغات ما ذكره المؤرخ الفرنسي شاميدور، من أن صلاح الدين كان عازماً على القضاء على نور الدين, ومنها ما أورده رينتز من أن صلاح الدين لو كان مخلصاً لسيده نور الدين؛ لكانت الإمارات الصليبية قد أسقطت بيد نور الدين في حياته.

ولكن يمكن القول أن نور الدين كان يلح على صلاح الدين باستخدام قوى مصر لمساندة الشام في الحرب ضد الصليبيين الفرنجة, والواقع أن صلاح الدين كان أعرف بأحوال مصر, وكان يرى أن تثبيت كيان الدولة الجديدة في مصر أولى من الانشغال بمسائل الشام بهذه السرعة, ثم إنه كان يخاف ضياع مصر بثورة مضادة والخطر الصليبي على الأبواب.

ولما استقر صلاح الدين بمنصب الوزارة في مصر, قام بتنفيذ أعمال عديدة, يمكن من خلالها أن نقول: إنه كان يعد نفسه للقيام بانقلاب شامل في مصر، وكان أول تلك الأعمال تثبيت مركزه فيها, كما أرسل لأبيه وأخوته يستدعيهم إلى مصر, فسرهم نور الدين وأمر بطاعته.

وعكف بعدها على التخلص من الأمراء المصريين والعربان والسودان, وشكل فرقة من الحرس تدعى الصلاحية, وبذلك سيطر على أهم جزء من القطاع العسكري, وتوجه لحل مشاكل القطاع المدني.. ووجد في حل مشاكلهم الاقتصادية خير وسيلة لكسبهم, فأبطل المكوس الجائرة التي كانت مفروضة عليهم, ورد عن دمياط هجمة صليبية بدا صلاح الدين على إثرها للمصريين منقذاً, فالتفوا حوله.

توفي نور الدين عام 569هـ/1174م, وأصبح صلاح الدين سلطاناً على مصر والشام وأعالي العراق حتى الموصل, وبعد أن خاض مع ورثة نور الدين وقادته حرباً شديدة مدة عشر سنوات, وفتح بعدها كلاً من برقة وبلاد النوبة واليمن, وزحف إلى الشام ليتم توحيد مصر والشام والجزيرة، ويتخذ من الشام منطقة عسكرية لقربها من تحصينات الصليبيين.

وكان صلاح الدين يرى نفسه في هذه المرحلة قائداً للأمة، يؤيده الناس

ويناصــرونه على أعدائه المخــالفين له, ونظراً لضيق المجال عن ذكر دخول

بلاد الشام, اسمحوا لي فقط أن أذكر دخوله حمص, ما دمنا نتحدث في محرابها..

دخل صلاح الدين حمص يوم الثلاثاء 13جمادى الأولى عام 570هـ/ 8كانون أول عام 1174م وامتنعت قلعتها عليه, وكانت كما وصفها ابن جبير وقتذاك في غاية العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود, وأبوابها حديد، تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة, لذلك لم يشأ صلاح الدين الاستمرار في حصارها؛ بل ترك عليها حامية تحاصرها وتمنع الوصول إليها, ثم عاد إليها بعد أن فتح مدينة حماة وحاصر حلب, فراسل أميرها (كمشتكين) الصليبين وطلب مساعدتهم، فزحفوا على حمص وحاصروها؛ مما اضطر صلاح الدين للتوجه إليها، فدخلها وحاصر قلعتها تسعة أيام، حتى تمكن من فتحها في 17آذار 1175م، وأقطعها لابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، وهو أبو الملك المجاهد الذي حكم حمص 55 خمساً وخمسين عاماً.

وفي عام 571هـ/1175م طلب الصليبيون منه الصلح، لاسيما أنه أصبح الآن سلطاناً على الشام ومصر باعتراف الخليفة.

وبقي صلاح الدين اثنتي عشرة سنة من 570_582هـ/ 1174_1186م يعمل لتحقيق الوحدة، وإعداد العدة، قبل أن يبدأ بمرحلة التحرير. وقد كسب خلال هذه المدة محبة جمهور المسلمين وثقتهم، وبذلك بنى صلاح الدين وحدة قوية متينة ارتكزت على جمهور المسلمين لا على القيادات السياسية بين الأمراء فقط، وتمكن أن ينتصر على مناوئيه من الأمراء المسلمين لحسن تدبيره السياسي والعسكري، وتمكنه من استغلال الظروف التي كان يعيشها المجتمع الإسلامي آنذاك، والمناداة بما كان يطمح إليه جمهور المســــلمين؛ مــــن توحيـــــد الجهــــود ورص القوى لتحرير القدس وســـــائر البلاد

الإسلامية من الغزاة الفرنجة.

ولقد تميزت سياسة صلاح الدين تجاه الفرنجة الصــــليبيين في الفترة ما

بين وفاة نــــور الدين 569هـ_582هـ/1173_1186م، وهي الفتــــرة التي تمت فيها الوحدة بين مصر والشام والجزيرة بطابع اللين والموادعة والمهادنة.

وتعليل ذلك أن صلاح الدين كان يهدف إلى القضاء على الصليبيين قضاء تاماً، وهذا لا يتيسر قبل إقامة دولة إسلامية موحدة قوية. ومن هنا فقد هادنهم مؤقتاً لتصفية الحساب مع الأمراء المسلمين الذين يقاومون إنشاء دولة موحدة، وعلى الرغم من أنه لم يقم بحروب حاسمة في هذه الفترة ضد الصليبيين؛ إلا أنه كان بين وقت وآخر يكيل لهم الضربات القوية، ليبرهن على أنه قادر على مجابهة التحدي، وربما ليشعر مناوئيه من الأمراء المسلمين أنه قادر على القتال في جبهتين في آن واحد، أو ليبرهن لهم أن العدو المشترك قريب منهم والأجدى أن يتحدوا ضده.

ولم يبق أمامه طبقاً لمقتضيات الواقع السياسي والعسكري؛ إلا إعلان الجهاد ضد الصليبيين، بعد أن كسب على المستوى الإيديولوجي والإعلامي ثقة جمهور المسلمين فراح يعد العدة لمعركة فاصلة. فكانت معركة حطين.

جاءت الفرصة المواتية لصلاح الدين عندما نقض أرناط أمير الكرك، العهد المعقود بينه وبين مملكة بيت المقدس، فخرج من دمشق ليمنع اعتداء أرناط على قوافل الحجاج العائدين من مكة والتي قيل أن أخته كانت فيها، ولا نريد هنا أن نتحدث عن سير هذه المعركة الفاصلة، بل نكتفي بالقول إن الهزيمة التي أصابت الصليبيين عام 583هـ/1173م لم تكن نتيجة ضعف فيهم، إنما قابلهم جيش موحد له قائد محنك (كما يقول هارلد لامب) أحكم الخطة العسكرية، فأحسن اختيار الأرض، أرض المعركة، وزمنها، واستغل الحرفي شهر تموز، فمنع عن عدوه الماء، وقاد جيشه بنفسه بكل نجاح، وكان لانتصار صلاح الدين في حطين صدى بالغ الأثر في نفوس المسلمين عامة، وأهالي دمشق خاصة لأنها في تلك الفترة كانت مقره ومركز أعماله.

وكان من نتائج معركة حطين أسر أرناط وقتله مع بعض أمراء جيشه، وأسر الملك جاي لوزجنان ملك بيت المقدس، فأكرمه وعامله بالإحسان كما يقول ابن شداد، وكانت حطين مفتاح الفتوح الإسلامية في المنطقة، فقد أخذت القلاع والحصون بعدها تسقط بيد صلاح الدين الواحدة تلو الأخرى.

وفي كل مدينة وحصن كان صلاح الدين يؤمن أهله عندما يطلبون منه

الأمان، ويتسامح معهم بل ويحميهم، فها هو يؤمن أهل عكا حين استسلمت، وها هي زوجة القائد الصليبي ريموند المحاصرة في قلعة طبريا تطلب اللحاق بزوجها في طرابلس، فيؤمنها صلاح الدين مع مالها وفرسانها.

وكان لهذه السياسة السمحة النبيلة التي اتبعها صلاح الدين مع أهالي البلاد المفتوحة فوائد كثيرة، فقد حافظت على استمرار الحياة الاقتصادية لأن التجار الأوربيين من بنادقة وجنوبين وغيرهم، استمروا في أعمالهم التجارية بعد أن لمسوا من صلاح الدين العدل والصلاح،إضافة إلى أن تلك السياسة المعتدلة ساعدت على تسهيل مهمة فتح المدن التي كانت تحت السيطرة الصليبية.

وبقدر ما كان صلاح الدين متسامحاً، بقدر ما كان عسكرياً ناجحاً، وتتضح سياسته الحكيمة وبعد نظره العسكري بتوجهه نحو الساحل بعد معركة حطين لفتح المدن والحصون الصليبية، وعدم توجهه مباشرة لتحرير القدس حتى يحرمهم من قواعدهم البحرية التي تربطهم بأوربا من جهة، وليسهل الاتصال البحري مع موانئه المصرية.

وفي 15 رجب عام 583 هـ 2 تشرين أول 1187م وصل صلاح الدين بقواته إلى ظاهر القدس، وبدأ بضربها بالمجانيق وحدث قتال شديد بين المهاجمين والمدافعين استمات فيه الطرفان، وبعد أن تمكنت قوات صلاح الدين من إحداث ثغرة في السور, وعرف المحاصرون أنهم هالكون لا محالة, فطلبوا الأمان, فأمنهم صلاح الدين كعادته, وتوجهت إليه آلاف النسوة من الزوجات وبنات الفرسان الذين أسروا وقتلوا يسألنه الرحمة, فأمر بإطلاق سراح أزواجهن وآبائهن ومنح بعضهن هبات مناسبة (كما ورد في كتاب صلاح الدين هارولد لامب), بل وسمح للبطريرك الكبير أن يخرج من القدس ومعه كل أموال الكنائس التي اجتذبت أنظار الناس لكثرتها, فطلبوا من صلاح الدين أخذها، غير أنه رفض قائلاً: لا أغدر به، وأخذ منه عشرة دنانير فقط كغيره من الأسرى المفتدين, ولم يكن صلاح الدين عظيماً كعظمته يوم أمر بانتشار الأمراء والجنود المسلمين ليمنعوا أي اعتداء (إهانة تقع لأي صليبي خرج منها مستسلماً.... وهكذا منح العسكر الإسلامي المنتصر الرحمة للمدينة المقدسة بينما كان الفرنج الصليبيون منذ أكثر من ثمان وثمانين عاماً، أي منذ عام (491هـ/1069م) في دماء ضحاياهم..

ونتيجة لهذه المعاملة الحسنة طلب النصارى العرب سكان القدس البقاء فيها مع إخوانهم المسلمين العرب، كما أن الدولة البيزنطية وقفت من صلاح الدين موقفاً إيجابياً نظراً لمعاملته الحسنة للمسيحيين الشرقيين ومنهم الأرثوذكس, وكان إمبراطور بيزنطة إسحق الثاني يثق بصلاح الدين أكثر من الصليبيين, حتى إنه تحالف معه, مما أثار جوّاً من القلق في أوساط الصليبيين (كما قال الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه الحركة الصليبية).

كان لهزيمة الصليبيين في حطين وما أعقبها من سقوط القدس بيد صلاح الدين وفتح الساحل الشمالي, أثر كبير في أحداث رد فعل عنيف في أوربة, مما دعاهم لتأليف حملتهم الصليبية الثالثة؛ واشترك فيها فيليب الثاني ملك فرنسا, وريتشارد قلب الأسد ملك انكلترا, وفريدريك برباروسا إمبراطور ألمانية، فوصلت قوات فيليب وريتشارد عن طريق البحر وحاصروها, أما قوات برباروسا فقد توجهت برّاً إلى فلسطين, وقد تعرضت لهجمات السلاجقة وأهالي حلب, بل والدولة البيزنطية نظراً للأضرار التي ألحقها الألمان بأراضيه مما وثّق التقارب البيزنطي الأيوبي (كما جاء في النوادر السلطانية لابن شداد), وغرق برباروسا وهو يعبر نهراً في كيليكيا, وعاد أتباعه أدراجهم.

قاومت عكا الحصار مدة سنتين كاملتين شهدت فيهما أضخم العمليات الحربية, اشتركت فيها كل قوات أوربا الغربية تقريباً، وأخيراً سقطت عكا عام 587هـ/1191م, وقبض ريتشارد على أسراها وأمر بذبحهم, ولم ينج منهم إلا بعض الأمراء ليفتدى بهم أسرى الصليبيين, فكانت المذبحة رهيبة لدرجة أن جميع المؤرخين شرقيين وغربيين استنكروها.

وعلى الرغم من المعاملة اللاإنسانية التي عومل بها أسرى المسلمين في عكا؛ فإن صلاح الدين لم يعاملهم بالمثل حين أسر جماعة من الصليبيين بعد أيام من مذبحة عكا, وكان من الطبيعي أن يأمر بقتلهم, إلا أنه أطعمهم وكساهم, وأرسلهم بعدها إلى دمشق ليودعوا سجنها, فضرب أروع أمثلة التسامح وضبط النفس، وشتان بين السلوك الهمجي الذي اتبعه ريتشارد وبين السلوك الإنساني الذي اتبعه صلاح الدين (كما أورده المؤرخ هرولد لامب), وقد وصف الراهب أودو الدويلي معاملة المسلمين للأسرى الصليبيين).

ونظراً لنشاط صلاح الدين بالعمليات العسكرية، وفتحه بعض المدن والحصون التابعة لريتشارد، والتي كان آخرها استيلاؤه على يافا، ونظراً للضغوط الشديدة التي كان يلاقيها ريتشارد نتيجة خلافه مع قواته في الشام، ومن طلب الإنكليز المتكرر الذين يحثونه على العودة إلى وطنه- حتى لا يضيع ملكه-لذلك كله فضل ريتشارد عقد هدنة مع صلاح الدين بأي وسيلة، وقبل الصلح بالشروط التي فرضها صلاح الدين. وهكذا أخفقت الحملة الثالثة.

وعلى إثر هذا الصلح الذي تم في 20شعبان 588هـ/31 آب 1162م، وصل عدد كبير من الصليبيين إلى القدس لأداء الحج، فعاملهم صلاح الدين معاملة حسنة، ومد لهم موائد الطعام، وكان هدفه أن يقضي الصليبيون وطرهم من الزيارة ثم يعودوا إلى بلادهم، وليس في نفوسهم شيء على المسلمين فيأمنهم، وعاد ريتشارد إلى بلاده، وعاد صـــلاح الدين إلى القدس ليرمم أسوارها ويقوم

بإصلاحات فيها.

أما سياسته الداخلية، فلا شك أنها كانت وثيقة الصلة بسياسته الخارجية، سواء كان ذلك في تعامله مع الإمارات الإسلامية، أو مع الصليبيين. إذ أن هذه التنظيمات الإدارية والاقتصادية والثقافية كانت إلى حد ما القاعدة التي استند إليها صلاح الدين في توجيه نشاطه نحو التوسع في الشام، والتمكن من إتمام الوحدة بين مصر والشام وبلاد الجزيرة، فعن طريق هذه السياسة استطاع صلاح الدين السيطرة على الوضع الداخلي للإمارات الإسلامية التي انضمت إليها، والسير وفق نظام معين تمكن عن طريقه من استغلال الوسائل الاقتصادية والبشرية والعسكرية لمحاربة الصليبيين وتحرير القدس.

لذلك فإن معرفة السياسة الداخلية، والاطلاع على كيفية تعامل صلاح الدين مع أمرائه-على قلة المعلومات-أمر ضروري لتوضيح الأساس الداخلي الذي استندت إليه علاقاته الخارجية السياسية منها والعسكرية، وقد تبين أن صلاح الدين اعتمد جهاز الدولة النورية والفاطمية وتنظيماتهما، ولم يغير منها إلا القليل. وهذا واضح في نظم إدارة البلدان والجيش والتعبئة.

والسؤال الذي يمكن أن يطرح هو: هل أقام صلاح الدين تنظيماته الإدارية والاقتصادية على أنقاض جهاز الدولة التي سبقت حكمه دون تبديل أوتحوير؟ أم أنه أنشأ بالكلية نظماً جديدة؟ أم أنه أخذ النظم السابقة وكيّفها لحاجاته؟

لقد اقتبس صلاح الدين الكثير من نظم الدولة النورية والفاطمية، ولم يتبع سياسة خاصة به إلا فيما يخص مصروفات الدولة ووارداتها، وأن سكوت المصادر التاريخية عن بعض التنظيمات الإدارية والاقتصادية وغيرها في فترات معينة من التاريخ، لا يعني عدم وجودها، بل من المحتمل أن المصادر باهتمامها بالقضايا العسكرية والسياسية، انشغلت عن ذكر النظم الحضارية، لذلك فإن حدوث تحول سياسي أو حربي، والانتقال من عهد إلى عهد آخر لا يعني -كما هو واضح من استقراء التاريخ-سقوط التنظيمات القديمة، وقيام أخرى جديدة لا علاقة لها بسابقتها، لأن ذلك يناقض استمرارية التماسك الاجتماعي والنظام البيروقراطي الوظيفي بعد حدوث تلك التغيرات.

وهكذا يمكن القول إن صلاح الدين لم ينشئ مؤسسات ونظماً جديدة، بل أخذ ما كان موجوداً منها واكتفى بإجراء التعديلات الملائمة عليها.

ولقد أولى القضاء عناية كبيرة، فخصص يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، يجلس للعدل بين الناس حتى يصل إليه من يشاء، وقد اشتكى إليه يوماً رجل في دمشق ابن أخيه، فأنفذ إليه صلاح الدين في الحال، وأجلسه في مجلس الحكم، ولم يحابه رغم محبته له، حتى ساواه في المحاكمة، وحلفّه اليمين بعد إدلاء الخصم بدعواه (النوادر السلطانية)، وكانت سياسته أن يختار للقضاء قاضياً واحداً لا اثنين ليديم استقامة الحكم، وكان يوصي ولاته ألا يختاروا للقضاء من سأله.

ونتيجة لعدل صلاح الدين هذا فقد أمن الناس الشرور، وأخذوا يعملون إلى ساعات متأخرة من الليل دون خوف على حياتهم أو ممتلكاتهم (كما ورد في رحلة ابن جبير).

ولما تمكن صلاح الدين من توحيد مصر والشام وبلاد الجزيرة ارتفعت واردات الدولة، ولو لم يكن لديه الواردات الكافية التي ينفق منها على الجيش وبناء التحصينات العسكرية لما استطاع فتح القدس. فما أنواع وارداته؟ وما الطرق التي صرفها بها؟

صحيح أن صلاح الدين ألغى الضرائب الجائرة الكثيرة التي كان يعمل بها قبل مجيئه لكنه استعاض عنها بعائدات شرعية وهي: الزكاة، والخراج، والجزية. وكان صلاح الدين ينفقها جميعاً، مما دفع نواب خزانته أن يخفوا عنه شيئاً مما كان يرد إليهم من أموال.. "حذراً من يفاجئهم منهم، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه" (ابن واصل). ولم تكن لصلاح الدين سياسة مالية منظمة، وكل همه كان منصرفاً إلى الجهاد والتخفيف عن الناس، وكسب مودتهم، إلا أنه مع ذلك كانت له دواوين خاصة تهتم بشؤون الصرف والإنفاق على مرافق الدولة، وقد خصصت أغلب تلك المصروفات على التحصينات العسكرية وبناء السفن والمدارس والمساجد والبيمارستانات إضافة إلى رواتب الجند.

وقد أنشأ صلاح الدين ضمن اهتماماته الحضارية العديد من المدارس في أنحاء البلاد المختلفة وخصص لها مبالغ طائلة، للمدرسين والمعيدين والخدم بل والحمامات المجاورة لها، وحذا ولاته حذوه فتسابقوا في بناء المدارس وحبس الأوقاف عليها، وكان الطلبة الغرباء يفدون على المدن الرئيسية كدمشق والقاهرة والإسكندرية فيخصص لكل منهم مسكناً ومدرّساً وراتباً شهرياً.

أما التنظيم المالي في عهده فقد انتقل من نظام منح الرواتب إلى الأمراء والمشرفين على القلاع والحصون، إلى نظام منح المدن والقلاع للأمراء عن طريق منحهم الاستقلال الذاتي بعد أن يتعهدوا بالولاء والإخلاص للسلطان، وتقديم الإمدادات العسكرية من رجال وعتاد عند الطلب.

ولم يخرج صلاح الدين في تعيين الأمراء على العادة الجارية في عصره، وهي أن يسند الوظائف المهمة إلى أولاده وأقربائه، وخاصة الولايات وإمارة قطعات الجيش.

فولى مثلاً أخاه توران شاه على اليمن، واستخلف أخاه طغتكين على دمشق بعد استخلاصها من أيدي الزنكيين، كما أقطع حمص لمحمد بن شيركوه. وفي أواخر أيامه، أعد أولاده ليتولوا الحكم من بعده، فولى الأفضل وهو أكبرهم حكم دمشق، وقد ملك بعد وفاة والده إلى جانب دمشق، الساحل والقدس وبعلبك وبصرى وبانياس. بينما ملك العزيز عثمان مصر، أما حلب فكانت من نصيب الظاهر غازي، وكان من الطبيعي عند وفاة صلاح الدين، أن يعمل كل حاكم من ورثته على توسيع أملاكه، لذلك قام الصراع بينهم، فلم تمض سنة واحدة على وفاة صلاح الدين حتى دبَّ الخلاف بينهم كما يقول بركلمان.

أما الجيش فقد أولاه صلاح الدين عناية كبيرة، لأنه الأداة الفعالة التي يستطيع بها تحقيق أهدافه وأهمها تحرير القدس، فأنشأ له ديواناً خاصاً، خصص له ميزانية كبيرة، وأعطاه الحرية التامة للصرف على الأجناد وتوزيع الإقطاعات لهم. وكان كل أمير يتصرف بحرية بالإنفاق على جيشه، إلا أنه كان عليه أن يدفع به إلى حيث تقدمت قوات صلاح الدين لحرب الصليبيين، وكان هذا، أساس كل اتفاق بين هؤلاء الأمراء وبين صلاح الدين وهو أن تنضم قواتهم إلى قواته عند إعلان الجهاد ضد الصليبيين، وكان عدد هذه القوات يصل أحياناً إلى أربعة ألاف جندي.

كما اجتمع لصلاح الدين أسطول بحري قوي لا ينقصه شيء من أسلحة القتال، ولا ينقص قواده المعرفة بأحوال البحر، وقيادة المعارك، فاعتمد عليه صلاح الدين في حصار المدن والقلاع الساحلية.

لقد خاض صلاح الدين، وعلى مختلف الجبهات حروباً مستمرة، دامت ما يقرب من ثلاثين سنة ولم يعرف عنه أنه خاض معركة أو حاصر مدينة إلا وحسب لها حسابها من النصر أو الهزيمة، وخطط لها التخطيط الكافي.

وقد برهن استنتاجاً مما سبق على مقدرة عسكرية، وقسوة على النفس

في الإخلاص (فقد صان شرفه- كما قال هارولد لامب-وحافظ عليه أكثر من حفاظ الصليبيين على قانون الفروسية) كتابه شعلة الإسلام.

وكان رجلاً مستقيماً كما يقول المؤرخ القاضي ابن شداد يعرف بظاهره

وحسن نواياه، لم يستخدم المكر والخديعة حتى مع أعدائه، بينما استغل أعداؤه تلك الصفات فيه، فشاغلوه بالمواعيد والمراسلات الكاذبة ليسوفّوا بها الأوقات، كما فعل ريتشارد أثناء حصار عكا، غير أن صلاح الدين تمكن من الانتصار عليهم بالرغم من كل ذلك، ولم يبق بيدهم سوى مدينة صور وطرابلس مع بعض القلاع عند وفاته، ولم تكن لتحدث تلك الانتصارات لولا الصفات المعنوية والمادية التي تحلى بها صلاح الدين وجنده، فإضافة إلى بناء صلاح الدين لتلك الوحدة القوية التي امتدت من النيل إلى الفرات والتي اعتمدت على جمهور المسلمين، كان الجميع يحاربون أعداءهم بعقيدة الدفاع عن النفس، وتحرير القدس، تلك البقعة التي شفتها عقيدتهم، أضف إلى ذلك الخطط العسكرية الجيدة التي اتبعها صلاح الدين، ومشاركته الفعلية في الحرب إلى جانب قواته العسكرية، وقد برزت له هذه الميزة حتى في أشد الأيام الدامية حيث كان يتنقل وسط ميدان المعركة، يوقظ الهمم، ويحيي في الجند الروح القتالية، وكان يتبع خطة الحرب الخاطفة ومباغتة العدو، وقد تبين هذا واضحاً بعد معركة حطين عام 583هـ/1187م في هجماته المتلاحقة على عكا وصفد وغزة وغيرها من المناطق، وكان صلاح الدين وباعتراف أعدائه يقاتل ليل نهار بحيث لا يدع للصليبيين وقتاً للكلأ والراحة (كما ذكر الشاعر أمبروز المعاصر لصلاح الدين).

وقد أوضح المستشرق هاملتون جب بعض تلك الميزات الأخرى التي ساعدت صلاح الدين على تحقيق انتصاراته على أعدائه فقال: (جاءت بفضل امتلاكه لصفات معنوية، لا تشترك مع المواهب الإستراتيجية إلا القليل، كان رجلاً يستمد وحيه من مثل أعلى ذي قوة وثبات وإيمان راسخ الأركان، ولقد استسلمت له المدن والقلاع الصليبية بسهولة لسبب رئيسي يعود إلى شهرة صلاح الدين في المراعاة الدقيقة للعهود التي يأخذها على نفسه، وفي سماحة النفس التي لا تعرف المكر والحذر). انتهى قوله.

ومما سبق يتبين أن موقف صلاح الدين من الصليبيين كان موقفاً حازماً، فقد عاملهم معاملة الأعداء الحقيقيين الذين جاؤوا إلى أرض لم تكن لهم فاغتصبوها، وكان يجد نفسه المسؤول عن إخراجهم منها، ولذلك تميزت سياسته نحوهم بأنها كانت منحصرة في إعداد العدة وجمع الكلمة، ومحاربتهم من أجل إخراجهم من بلاد الشام، وفي هذا خاض صلاح الدين العديد من المعارك ضدهم وانتصر في أغلبها، وانتهت علاقته بهم، بالتوصل إلى عقد هدنة مؤقتة اضطر إلى الموافقة على قبولها كما اضطر الصليبيون نظراً للظروف القاسية، واستمرارية الحرب التي أنهكت القوى وأنفدت العَدد والعُدد والتي دامت زهاء مئتي عام وكانت أطول حرب في التاريخ.

وفي شخص صلاح الدين الأيوبي يقول القاضي بهاء الدين بن شداد معاصره في كتابه النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية: صلاح الدين يوسف بن أيوب بطل حكيم، ولد في بيت قيادة، واجتمعت عناصر عدة في تربيته، لعل أبرزها الجانب العسكري الذي كان ضرورياً أكثر من سواه في تلك المرحلة التي كانت منطقتنا تعاني أثناءها من غزو الفرنجة، وتظهر روحه العسكرية طيلة حياته، فكان يمضي السنوات تلو السنوات متنقلاً من معركة إلى معركة، لا يعرف البيت المستقر المشيد الأركان، يريح سواه من القتال ولا يستريح، ويتابع ابن شداد قوله: وليس التمرس العسكري هو كل ما تلقاه صلاح الدين أثناء نشأته، بل درس العلوم الدينية حتى انتظمت عقيدته انتظاماً واضح الرؤية، قائماً على الدليل مع قرن للنظر بالعمل أي اقتران النظرية بالتطبيق، واطلع على أنساب العرب وآدابهم وأيامهم، وكان يتمثل أحياناً بأبيات من شعرهم، وعرف قيمهم واعتز بما كانوا يعتزون.

ومن أبرز مزاياه: الشجاعة، إذ لم يجرؤ أحد غيره على اعتقال شاور الوزير الفاطمي، وهو في الحروب القدوة الرابط الجأش، الراسخ القدم، كما اتصف بالكرم، ويكفي دليلاً على كرمه (أنه ملك ما ملك ومات ولم يخلف إلا سبعة وأربعين درهماً فضة وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلّف داراً ولا بستاناً ولا قرية ولا شيئاً من أنواع الأملاك، ثم يقول: فإنه مات رحمه الله ولم يحفظ ما وجبت عليه الزكاة بل كان يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والعلماء ليضمن حسن سير الأمور. وكان عادلاً بل قمة في العدالة، فقد اشتكى إليه يوماً رجل في دمشق ابن أخيه فأنفذ إليه صلاح الدين في الحال وأجلسه مجلس الحكم رغم محبته له، ولم يحابه، حتى ساواه في المحاكمة، وحلّفه اليمين بعد إدلاء الخصم بدعواه. وكان متصفاً بسعة الصدر وما يتبع ذلك من حلم وأناة وتفضيل للحسنى، وإيثار للسلم إذا حقق الأهداف بدل الحرب مع قدرته على الحرب عند اللزوم، وكان يستشير أصحابه، فكثيراً ما جمع قادته وطرح عليهم المشكلات التي تواجهه، وكان صاحب مروءة يهتم مثلاً بالطفلة الفرنجية الأسيرة التي استنجدت به أمها لإنقاذها، فلم يهدأ حتى عثر عليها وأعادها إليها. ومن أهم صفاته: الصبر، فكثير من شؤون عصره لا يعايشها إلا الصبور، فاحتماله خلافات قادته وانشقاقات أمته: صبر، وهدوؤه وكياسته تجاه الخلافة العباسية المقصرة معه: صبر، فضلاً عن استمراره في بذل الجهد بشكل متواصل منذ توليه الأمر في مصر منذ عام 1169م وحتى وفاته 1193م، فهو ليس من الجبابرة الجسمانيين بل من جبابرة الإرادة.

No comments: